بالنسبة إلى ملايين الأشخاص، يُعتبر تطبيق "تلغرام" مثل أي تطبيق آخر للتواصل الاجتماعي أو المراسلة.
في البرازيل، يتابع 167,000 شخص قناة على "تلغرام" للحصول على أخبار العروض الواقعية والترفيه. في الهند، يستعدّ أكثر من مليون مستخدم لامتحانات الحكومة عبر قناة أخرى. وفي قناة تُدعى "Whale" يتابعها أكثر من 3 ملايين شخص، يتم تبادل نصائح حول التداول بالعملات الرقمية باللغة الفارسية.
لكن عند البحث بعمق، يظهر جانب مظلم.
تُباع قطع الكوكايين غير المقطعة وشظايا الميثامفيتامين البلوري على التطبيق. الأسلحة اليدوية والشيكات المسروقة متوفّرة على نطاق واسع. ويستخدم القوميّون البيض المنصة للتنسيق في ما بينهم وتنظيم نوادي القتال والتخطيط للمسيرات. وبثّت حركة "حماس" هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر عبر الموقع.
وفقاً لتحقيق أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" على مدار أربعة أشهر، فإنّ "تلغرام" أصبح بؤرة للنشاط الإجرامي العالمي، التضليل، استغلال الأطفال جنسياً، الإرهاب، والتحريض العنصري. وشمل التحقيق تحليل أكثر من 3,2 ملايين رسالة "تلغرام" من أكثر من 16,000 قناة. ويظهر أنّ الشركة وفّرت ميزات تُمكّن المجرمين والإرهابيِّين والمحتالين من التنظيم على نطاق واسع والتهرّب من المراقبة من قِبل السلطات، إذ غضّت الطرف عن الأنشطة غير القانونية والمتطرّفة التي انتشرت بشكل علني على التطبيق.
لم يتم الإبلاغ عن مدى انتشار هذا النوع من المحتوى على "تلغرام" سابقاً. ووجد التحقيق أنّ هناك 1,500 قناة يُديرها قوميّون بيض، تنسّق الأنشطة بين ما يقرب من مليون شخص حول العالم. كما أنّ هناك ما لا يقل عن 20 قناة تبيع الأسلحة. وفي 22 قناة أخرى، بإجمالي متابعين يزيد عن 70,000 شخص، تم الإعلان عن تسليم مواد مخدرة مثل MDMA، الكوكايين والهيرويين إلى أكثر من 20 دولة.
ازدهرت "حماس"، تنظيم الدولة الإسلامية، وجماعات متشدّدة أخرى على "تلغرام"، وغالباً ما حصدت جماهير كبيرة عبر عشرات القنوات. وحلّلت "التايمز" أكثر من 40 قناة مرتبطة بحماس، التي أظهرت أنّ عدد المشاهدات تضاعف حتى 10 مرات بعد هجمات السابع من أكتوبر، إذ سجّلت أكثر من 400 مليون مشاهدة خلال شهر تشرين الأول فقط.
تقول ريبيكا واينر، نائبة مفوّض الاستخبارات ومكافحة الإرهاب في شرطة نيويورك: "تلغرام هو المكان الأكثر شعبية لتجمّع الفاعلين السيّئين والعنيفين". وأضافت: "إذا كنت شخصاً سيئاً، فهذا هو المكان الذي ستتوجّه إليه".
عمل "تلغرام" لفترة طويلة ككيان بلا دولة، متصرّفاً وكأنّه فوق القانون - على الرغم من أنّ هذا قد يتغيّر قريباً. بافيل دوروف، مؤسس التطبيق المولود في روسيا، تم القبض عليه ووُجِّهت إليه اتهامات في فرنسا الشهر الماضي بسبب عدم تعاونه مع تطبيق القانون والتواطؤ في الجرائم التي ارتُكِبت عبر الخدمة، بما في ذلك توزيع مواد استغلال الأطفال جنسياً، الاتجار بالمخدّرات، والاحتيال.
في العديد من البلدان الديموقراطية، بدأ الصبر ينفد مع التطبيق. الاتحاد الأوروبي يبحث الآن في فرض رقابة جديدة على "تلغرام" بموجب قانون الخدمات الرقمية، الذي يُلزم المنصات الإلكترونية الكبرى بمراقبة خدماتها بشكل أكثر صرامة، وفقاً لشخصَين مطّلَعين على الخطة.
تبدأ مرونة "تلغرام" في التعامل مع الأنشطة السامة من دوروف، البالغ من العمر 39 عاماً، الذي يُدير الشركة بعقيدة قوية مفادها أنّ الحكومات لا ينبغي أن تتدخّل بما يقوله الناس أو يفعلونه عبر الإنترنت. في وقت سابق من هذا العام، كتب على قناته الخاصة على "تلغرام": "لو كان الأمر بيدي، لأعطينا مستخدمينا دائماً ما يطلبونه: الوصول إلى المعلومات والآراء غير المراقبة حتى يتمكنوا من اتخاذ قراراتهم بأنفسهم".
ساعدت منصة "تلغرام" الناس في البلدان الاستبدادية في إيجاد وسائل للتواصل بحرية، لكنّها في الوقت نفسه ساهمت في إحداث أضرار حقيقية على أرض الواقع. فقد لعبت خطابات الكراهية التي انتشرت على المنصة دوراً في إثارة أعمال الشغب الأخيرة في بريطانيا وحوادث حرق مراكز إيواء المهاجرين في أيرلندا.
على "تلغرام"، ظهر مجتمع متطرّف يُعرف باسم "تيرورغرام" (Terrorgram)، حيث يتبادل الفاشيّون الجدد الرسائل ومقاطع الفيديو التي تشجّع على العنف. وقد تم ربط هذا المجتمع بهجمات، بما في ذلك حادثة إطلاق نار في عام 2022 استهدفت حانة للمثليّين في سلوفاكيا.
حتى مع اقتراب "تلغرام" من تجاوز حاجز المليار مستخدم، فإنّه ما زال يفتخر بسلوكه المختلف عن نظرائه من شركات التكنولوجيا الأخرى. وتعمل الشركة، التي تتخذ من دبي مقراً لها، بأسلوب يُشبه الشركات الناشئة، فتوظّف حوالى 60 موظفاً بدوام كامل. كما وظّفت بضع مئات من المتعاقدين للعمل كمشرفين على المحتوى، وما زالت تتجاهل غالبية طلبات المساعدة من وكالات إنفاذ القانون.
البريد الإلكتروني المخصّص للرد على الاستفسارات من الجهات الحكومية نادراً ما يتم فحصه، وفقاً لتصريحات موظفين سابقين. عندما طلبت لجنة في مجلس النواب الأميركي التي كانت تحقق في هجوم السادس من كانون الثاني 2021 على مبنى الكابيتول معلومات من 15 منصة إنترنت، كانت "تلغرام" هي الوحيدة التي لم تستجب.
على النقيض من ذلك، فإنّ منصات مثل "إنستغرام"، "يوتيوب"، و"تيك توك" لديها أقسام كاملة مكرّسة للتعاون مع طلبات إنفاذ القانون، كما تعمل فرق مكوّنة من آلاف المشرفين على مراقبة خدماتها للبحث عن المحتوى غير القانوني أو الضار.
فقط شركتا "آبل" و"غوغل"، اللتان يمكنهما إزالة "تلغرام" من متاجر التطبيقات الخاصة بهما، تمكّنتا من الضغط على المنصة لإزالة وتقييد انتشار المحتوى الضار، وفقاً لتحليلات، ومسؤولين حكوميِّين، ومديرين تنفيذيِّين في مجال التكنولوجيا. ولجأت الحكومات أحياناً إلى شركات التكنولوجيا للحصول على المساعدة في إجبار "تلغرام" على التحرّك.
بعد ساعات من إرسال "التايمز" قائمة مفصلة من الأسئلة إلى "تلغرام"، قام دوروف يوم الخميس بنشر أول تعليقاته إلى أكثر من 12 مليون متابع له منذ اعتقاله. وقال إنّ الادّعاءات بأنّ "تلغرام يُعدّ نوعاً من الجنّة الفوضوية هي ادعاءات غير صحيحة تماماً" وأنّ الشركة تزيل "ملايين المنشورات والقنوات الضارة يومياً".
وأشار إلى أنّ حجم المحتوى غير القانوني والضار هو نتيجة "النمو السريع" للتطبيق، وأضاف: "لهذا السبب جعلت من هدف حياتي الشخصية التأكد من أنّنا نحسن الأمور بشكل كبير في هذا الصدد".
في بيان لصحيفة "التايمز"، قالت شركة "تلغرام" إنّ "99.999% من مستخدمينا" يتصرّفون بشكل قانوني، وأنّه "لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يجب القيام به"، إلّا أنّ المنصة تُجري تحسينات على ميزاتها وآليات الإشراف على المحتوى.
سوق للجريمة
في كانون الأول 2022، بدأ هايدن إسبينوزا قضاء عقوبة بالسجن لمدة 33 شهراً في سجن فيدرالي بولاية لويزيانا بتهمة شراء وبيع أسلحة نارية وأجزاء أسلحة غير قانونية قام بتصنيعها باستخدام طابعات ثلاثية الأبعاد. لكنّ ذلك لم يُوقِف نشاطه التجاري.
باستخدام هواتف محمولة تم تهريبها إلى السجن، واصل إسبينوزا تجارته غير المشروعة عبر قناة على "تلغرام" كانت تُعرف باسم الطباعة ثلاثية الأبعاد والتعديل الثاني للدستور الأميركي الذي يضمَن حق حمل السلاح، وفقاً للائحة اتهام صدرت في حزيران عن المدعي العام في مانهاتن ألفين براغ.
وعرض أحد المنشورات في "المتجر" على القناة قائمة بالأسعار لقطع الأسلحة، بما في ذلك مخازن الذخيرة وأجهزة تسمى "auto sears" التي تسمح بإفراغ المخزن كله بضغطة زر واحدة. وقال المنشور: "أرسل رسالة خاصة للطلبات الدولية".
ويجمع "تلغرام" بين سرية الإنترنت المظلم وسهولة استخدام السوق الإلكترونية. من السهل البحث والعثور على قنوات تبيع الأسلحة والمخدّرات غير المشروعة، الأدوية الموصوفة، وبطاقات ATM مزوّرة تُسمّى "بطاقات الاستنساخ".